ربما لم يدر في خلد فاتح الأندلس طارق بن زياد (وهو يحرق سفنه) عند بلوغ الضفة الأخرى، أن فعلته هاته ستصير مثلا (يحتذى به) بالنسبة لشباب آل الجنوب بدءا من العقد الأخير من القرن الذي ودَعناه، فالذين تكتب لهم النجاة من الغرق في مقبرة المتوسط ويصلون سالمين لا غانمين إلى شواطئ أوروبا، يهرعون قبلا إلى حرق أوراق الهوية أملا في اكتساب هوية جديدة، ومن هنا جاء مصطلح "الحريق " الذي صار دالا على الهجرة السرية عبر قوارب الموت أو شاحنات البضائع، أوغيرها من الطرق التي يعتقد البعض (أنها تحرره) من قطران البلاد وتقوده نحو "عسل" البلدان الأخرى، فالهجرة السرية صارت اليوم من أكثر الأسئلة طرحا، فما من لقاء رسمي أو غير رسمي بين آل الضفتين، إلا و تلقي الهجرة السرية بظلالها عليه.
ويبدو أن موسم الهجرة نحو الشمال قدر له أن يكون لانهائيا في ضفة الجنوب، فالدراسات التي أجريت في العديد من دول المغرب العربي تؤكد بأن نسبة عالية من الشباب يجعلون من الهجرة السرية الهدف والأفق الأثير، فالحلم الأكبر بالنسبة لهؤلاء الشباب هو الالتحاق بالفردوس المفقود، والانتهاء من متاهات البطالة والانتظار القاتل، بأي طريقة وبأي ثمن، أسوة بأقرانهم الذين لم يهتموا بذلك المثل الشعبي الدارج الذي يوصي بأن " قطران بلادي ولا عسل البلدان"، فما يأتي به المهاجرون صيفا من سيارات فارهة، وما يقومون به لصالح عائلاتهم يؤكد بأن عسل الضفة الأخرى يستحق في نظرهم اللعب بالنار عبر ركوب قوارب الموت. -عبد الرحيم العطري-