كثيرا" ما يقال ان هذا الكون المادي لا يحتاج الى خالق ولكننا اذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده و نشأته ؟
هنالك أربع احتمالات للاجابة عن هذا السؤال : فاما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده و اما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم واما أن يكون أبديا ليس لنشأته بداية واما أن يكون له خالق .
فلنقم الآن بشرح كل احتمال على حدى :
1- الاحتمال الأول أن يكون هذا الكون مجرد وهم و خيال : فهذا الاحتمال لا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور و الاحساس فهو يعني أن احساسنا بهذا الكون و ادراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة .
وقد عاد الى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيرا سير جيمس جينز الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي و أنه مجرد صورة في أذهاننا .
وتبعا لهذا الرأي نستطيع أن نقول اننا نعيش في عالم من الأوهام فمثلا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست الا خيالات وبها ركاب وهميون وتعبر أنهارا لا وجود لها وتسير فوق جسور غير مادية.... وهو رأي وهمي لا يحتاج الى مناقشة أو جدال .
2- الاحتمال الثاني أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم : القائل ان هذا العلم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وجد من العدم فهو لايقل عن سابقه سخفا وحماقة و لا يستحق هو ايضا أن يكون موضع النظر أو المناقشة .
3- الاحتمال الثالث أن يكون هذا الكون أبديا ليس لنشأته بداية : هذا الاحتمال انما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون وذلك في عنصر واحد هو الأزلية .
و اذا" فنحن اما أن ننسب صفة الأزلية الى عالم ميت و اما أن ننسبها الى اله حي يخلق .
وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر ولكن قوانين الدنياميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا و أنها سائرة حتما الى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الأنخفاض هي الصفر المطلق و يومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة .
ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة الأجسام الى الصفر المطلق بمضي الوقت .
أما الشمس المستعرة و النجوم المتوهجة و الأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة فهو اذا" حدث من الأحداث .
ومعنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية عليم محيط بكل شيء قوي ليس لقدرته حدود و لا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه .
ان ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا" عديدة لايمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية .
فلأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام فيكون في ذلك تتابع الفصول الذي يؤدي في دوره الى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكني من سطح كوكبنا ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة .
ويحيط بلأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها الى ارتفاع كبير يزيد على 500 ميل ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة الينا بسرعة ثلاثين ميلا" في الثانية والغلاف الجوي الذيي يحيط بلأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة ويحمل بخار الماء من المحيطات الى مسافات بعيدة داخل القارات حيث يمكن أن يتكاثف مطرا" يحي الأرض بعد موتها والمطر مصدر لماء عذب ولو لاهلأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة .
ومن هنا نرى أن الجو و المحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة .
ويمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات و البحيرات و الأنهار وخاصة حيثما يكون الشتاء قارسا" وطويلا" فالماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة .
وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة ربعة مئوية .
والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات و الأنهار يطفو على سطح الماء لخفته النسبية فيهيء بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة .
وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في البحار .
أما الرض اليابسة فهي بيئة لحياة كثير من الكائنات الأرضية فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات ويمثلها ويحولها الى أنواع مختلفة من الطعام يفتقر اليها الحيوان .
ويوجد كثير من المعادن قريبة من سطح الأرض مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة و نشأة كثير من الصناعات والفنون .
وعلى ذلك فان الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة .
ولاشك أن كل هذا من تيسير حكيم خبير وليس من المعقول أن يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء .
وكثيرا" ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لا نهائي ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر أو حتى لو أن قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت .
أما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعاف وأصبحت جاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه وانخفض تبعا" لذلك ارتفاع غلافها الهوائي وزاد الضغط الجوي من كيلو جرام واحد الى كيلو جرامين على السنتيمتر المربع ويؤثر كل ذلك أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعا" كبيرا" وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكن نقصا" ذريعا" وبذلك تعيش الجماعات الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر و الاتصال بل قد يصير ضربا" من ضروب الخيال .
ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للأجسام التي عليها 150 ضعفا ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي الى أربعة أميال ولأصبح تبخر الماء مستحيلا" ولأرتفع الضغط الجوي الى ما يزيد على 150 كيلو جراما" على السنتيمتر المربع ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حاليا" رطلا" واحدا" الى 150 رطلا" ولتضاءل حجم الانسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات .
ولو أزيحت الأرض الى ضعف بعدها الحالي عن الشمس لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس الى ربع كميتها الحالية وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت أطول وتضاعفت تبعا" لذلك طول فصل الشتاء وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض .
ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس الى نصف ماهي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس لآلت الفصول الى نصف طولها الحالي اذا كانت هنالك فصول مطلقة ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة .
وعلى ذلك فان الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها يهيء للانسلن أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا .
فاذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق فلا بد ان تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فماهي تلك المصادفة اذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة ؟
ان نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الاسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم القرب الى الصواب مع تقدير احتمال الخطا في هذا الحكم ....
ولقد تقدمت الدراسات النظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا" حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول انها تحدث بالمصادفة والتي لا نستطيع ان نفسر ظهورها بطريقة أخرى .
و قد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة و ما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة و أن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان.
ولننظر الأن إلى الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشاة الحياة:
إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية,وهي تتكون من خمسة عناصر هي:
1-الكربون
2- الأيدروجين
3- النتروجين
4-الأكسجين
5-الكبريت
و يبلغ عدد الذرات في الجزئ البروتيني الواحد أربعين الف ذرة.
و لما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرا موزعة كلها توزيعا عشوائيا فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزيئا من جزيئيات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزئ
ثم لمعرفة طوال الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الإجتماع بين ذرات الجزئ الواحد.
و قد قام العالم الرياضي السويسري تشارليز يوجين جاي بحساب هذه العوامل فوجد أن الغرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزئ بروتيني واحد إلا بنسبة 1إلى رقم عشرة مضروبا بنفسه 160 مرة.
و هو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات و ينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزئ واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات.
و يتطل تكوين هذا الجزئ على سطح الأرض وبعدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة بنفسها 243 مرة من السنين.
إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية فكيف تتآلف ذرات هذه الجزيئات؟؟
إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها تصير غير صالحة للحياة بل تصير في بعض الأحيان سموما.
وقد حسب العالم الإنجليزيj.b.leathes الطرق التي يمكن أ تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ البلايين 10 مضروبة بنفسها 48 مرة.
و على ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحدا.
و لكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة ولا تدب فيها الحياة الا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنه شيئا.
إنه العقل اللانهائي وهو الله وحده الذي استطاع أن يدرك ببال حكمته أن مثل ذلك الجزئ البروتيني يصلح لأن يكون مستقرا للحياة فبناه و صوره و أغدق عليه سر الحياة