أحبتى فى الله …
اسمحوا لى أن أقول: أعرونى القلوب والأسماع والوجـدان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القـول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ألوا الألباب.
الأخوة في الله موضوع يطول فيه الحديث لذا سنقسمه ونتطرق إلى
أولاً: حقيقة الأخوة.
أحبتى فى الله: لقد أصبحت الأمـة اليوم كما تعلمون غثاء كغثاء السيل، لقد تمـزق شملها وتشتت صفها، وطمع فى الأمـة الضعيف قبل القوى، والذليل قبل العزيز، والقاصى قبل الدانى، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخـوان القردة والخنازير، والسبب الرئيس أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء ،والأمة أصبحت ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف، والخذلان، والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها ألا وهو ((الأخوة فى الله)) بالمعنى الذى جاء به رسول الله فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقى إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الأخوة التى بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملى ومنهج حياة، تجلى هذا الواقـع المشرق المضىء المنير يوم أن آخى النبى ابتداءً بين الموحدين فى مكة، على الرغم من اختـلاف ألوانهم وأشكالهم، وألسنتهم وأوطانهـم، آخى بين حمـزة القرشى وسلمان الفارسى وبلال الحبشى وصهيب الرومى وأبى ذر الغفاري، وراح هؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة.
أبى الإسلام لا أبَ لى سِوَاهُ إذا افتخـروا بقيسٍ أو تميمِ
راحوا يرددون جميعاً بلسان رجل واحد قول الله عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُـونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]. هذه هى المرحلة الأولى من مراحل الإخاء.
ثم آخى النبى - ثانيا - بين أهل المدينة من الأوس والخزرج، بعد حروب دامية طويلة، وصراع مر مرير، دمر فيه الأخضر واليابس!!
ثم آخى رسول الله بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار، فى مهرجـان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، تصافحت فيه القلوب، وامتزجت فيه الأرواح، حتى جسد هذا الإخاء هذا المشهد الرائع الذى جـاء فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبى بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قـد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً، سأقسم مالى بينى وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظـر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال عبد الرحمـن: بارك الله لك فى أهلك. دلونى على السوق، فلم يرجـع يومئذٍ حتى أستفضَلَ شيئاً من سَمْنٍ وأقطٍ، فلم يَلْبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله وعليه وَضَرٌ من صُفرةٍ فقال له رسول الله ((مَهْيَمْ؟)) قال: تزوجتُ امرأةً من الأنصار قال: ((ما سقت إليها؟)) قال: وزن نواة من ذهب أو نواةٍ من ذهب فقال: ((أولم ولو بشـاة)) ([1]) وقد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول أين سعد بن الربيع الذي أراد أن يشاطر أخاه ماله وزوجه؟!!
والجواب: ضاع. وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف.
فإذا كان السؤال: من الآن الذى يعطى عطاء سعد؟! فإن الجواب: وأين الآن من يتعفف بعفة عبد الرحمن بن عوف؟!!
لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال: أين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً [ البقرة: 274 ]فقال له: ذهبوا مع من لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ البقرة: 273 ].
هذا مشهد من مشاهد الإخاء الحقيقى بمعتقد التوحـيد الصافى بشموله وكماله، والله لولا أن الحديـث فى أعلى درجات الصحـة لقلت إن هذا المشهد من مشاهد الرؤيا الحالمة.
هذه هى الأخوة الصادقة، وهذه هى حقيقتها، فإن الأخوة فى الله لا تبنى إلا على أواصـر العقيدة وأواصر الإيمـان وأواصر الحب فى الله، تلكم الأواصر التى لا تنفك عراها أبداً.
الأخوة فى الله نعمة جمة من الله، وفضـل فيض من الله يغدقهـا على المؤمنين الصادقـين ،الأخـوة شراب طهور يسقيه الله للمؤمنـين الأصفياء والأزكياء.
لذا فإن الأخوة فى الله قرينة الإيمان لا تنفك عنه، ولا ينفك الإيمان عنها فإن وجدت أخوة من غير إيمـان، فاعلم يقيناً أنها التقـاء مصالح، وتبادل منافع، وإن رأيت إيمان بدون أخوة صادقة فاعلم يقيناً أنه إيمان ناقص يحتاج صاحبه إلى دواء وعلاج لمرض فيه، لذا جمع الله بين الإيمـان والأخوة فى آية جامعة فقال سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [ الحجرات: 10 ].
فالمؤمنون جميعاً كأنهم روح واحدة حل فى أجسام متعددة كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة، بالله عليكم أين هذه المعانى الآن؟!!
ولذلك لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذى ذكر آنفا ربما استغرب أهل الإسلام هذه الكلمات، وظنوها كما قلت من الخيالات الجميلة والرؤيا الحالمة لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد هذا الواقع الأليم، وإنا لله وإنا إليه راجعـون، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة لا حرارة فيها إلا من رحم الله.
فإن الأخوة الموصلة بحبل الله المتين نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل فقال سبحانه:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102-103].
فالأخوة نعمة من الله امتن بها الله على المؤمنين وقال تعالى: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وقال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الأنفال: 63 ].
سيتبع بإذن الله في المرة القادمة ب:ثانيا حقوق الأخوة
[center][right]